الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذا الذي ذكره إنما يتأتى على الإعراب الأوّل، وقد تقدّم أنه مرجوح ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه الأعظم بقوله تعالى: {من الله} أي: الملك الأعظم الذي لا عز إلا له {فأتاهم الله} أي: جاءهم الملك الأعظم الذي لا يحتملون مجيئه {من حيث لم يحتسبوا} بما صوّر لهم من حقارة أنفسهم على حبسها، وهي خذلان المنافقين رعبًا كرعبهم. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بفتحها {وقذف} أي: أنزل إنزالًا كأنه قذف بحجارة فثبت {في قلوبهم الرعب} أي: الخوف الذي سكنها بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة. وقرأ {في قلوبهم الرعب}، و{عليهم الجلاء}، و{لأخوانهم الذين} حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم، وأبو عمر وبكسرهما، والباقون بكسر الهاء وضم الميم، وحرّك العين بالضم ابن عامر والكسائي، والباقون بالسكون.ثم بين تعالى حالهم عند ذلك وفسر قذف الرعب بقوله تعالى: {يخربون بيوتهم} أي: لينقلوا ما استحسنوه منها من خشب وغيره. وقرأ أبو عمرو بفتح الخاء وتشديد الراء، والباقون بسكون الخاء وتخفيف الراء وهما بمعنى، لأنّ خرب عدّاه أبو عمرو بالتضعيف، وهم بالهمزة. وعن أبي عمر وأنه فرق بمعنى آخر فقال: خرّب بالتشديد هدم، وأفسد وأخرب بالهمزة ترك الموضع خرابًا وذهب عنه، وهو قول الفرّاء. قال المبرد: ولا أعلم لهذا وجهًا، وزعم سيبويه أنهما متعاقبان في بعض الكلام فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو: فرحته وأفرحته.وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص {بيوتهم} بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها {بأيديهم وأيدي المؤمنين} قال الزهري: وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أنّ لهم ما أقلت الأبل، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم فيهدمونها، وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم، ويخرّب المؤمنون باقيها. وقال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا ما خرّب من حصنهم.وقال مقاتل: إنّ المنافقين أرسلوا إليهم أن لا تخرجوا ود ربوا عليهم الأزقة، وكان المسلمون سائر الجوانب.فإن قيل: ما معنى تخريبها لهم بأيدي المؤمنين؟أجيب: بأنهم لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه. وقال أبو عمرو بن العلاء: بأيديهم في تركهم لها، وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها.ولما كان في غاية الغرابة أن يعمل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوّه تسبب عن ذلك قوله: {فاعتبروا} أي: احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمّل في عظيم قدرة الله تعالى، والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخدّ. وسمي علم التعبير لأنّ صاحبه ينتقل من التخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال: السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره. ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالاتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها.ثم بين أنّ الاعتبار لا يحصل إلا للكمل بقوله تعالى: {يا أولي الأبصار} بالنظر بإبصارهم وبصائرهم في غريب هذا الصنع، لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إظهار دينه وإعزاز نبيه، ولا تعتمدوا على غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على المنافقين، فإنّ من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته.{ولولا أن كتب الله} أي: فرض فرضًا حتمًا الملك الذي له الأمر كله {عليهم الجلاء} أي: الخروج من ديارهم والجولان في الأرض. فأمّا معظمهم فأجلاهم بختنصر من بلاد الشام إلى العراق، وأمّا هؤلاء فحماهم الله تعالى بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الجلاء، وجعله على يده صلى الله عليه وسلم فأجلاهم، فذهب بعضهم إلى خيبر، وبعضهم إلى الشام مرة بعد مرة.تنبيه:قال الماوردي: الجلاء أخص من الخروج، لأنه لا يقال إلا للجماعة، والإخراج يكون للجماعة والواحد. وقال غيره: الفرق بينهما أنّ الجلاء ما كان مع الأهل والولد، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك {لعذبهم} أي: بالقتل والسبي {في الدينا} كما فعل بقريظة من اليهود {ولهم} أي: على كل حال أجلوا أو تركوا {في الآخرة} التي هي دار البقاء {عذاب النار} وهو العذاب الأكبر.{ذلك} أي: الأمر العظيم الذي فعله بهم من الجلاء ومقدماته في الدنيا، ويفعله بهم في الآخرة {بأنهم شاقوا الله} أي: الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامّة فكانوا في شق غير شقه، بأن صاروا في شق الأعداء المحاربين بعدما كانوا الموادعين {و} شاقوا {رسوله} أي: الذي إجلاله من إجلاله {ومن يشاق الله} أي: يوقع في الباطن مشاقة الملك الأعلى الذي لا كفؤ له في الماضي والحال والاستقبال {فإن الله} أي: المحيط بجميع العظمة {شديد العقاب} وذلك كما فعل بأهل خيبر.وقوله تعالى: {ما} شرطية في موضع نصب بقوله تعالى: {قطعتم} وقوله تعالى: {من لينة} بيان له. واختلف في معنى قوله تعالى: {من لينة} فأكثر المفسرين على أنها هي النخلة مطلقًا، كأنهم اشتقوها من اللين. قال ذو الرمة:
وقال الزهري: هي النخلة ما لم تكن عجوة ولا برنية، وقال جعفر بن محمد: هي العجوة خاصة، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه الصلاة والسلام في السفينة، والعتيق: الفحل وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها حكاه الماوردي. وقال سفيان: هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارجه، ويغيب فيه الضرس النخلة منها أحب إليهم من وصيف.وقيل: هي النخلة الكريمة، أي: القريبة من الأرض. وقيل: هي الفسيلة، أي: بالفاء وهي صغار النخل لأنها ألين من النخلة. وقيل: هي الأشجار كلها للينها بالحياة. وقال الأصمعي: هي الدقل. قال ابن العربي: والصحيح ما قاله الأزهري ومالك، وجمع اللينة لين؛ لأنه من باب اسم الجنس كتمرة وتمر، وقد تكسر على ليان وهو شاذ لأن تكسر ما يفرق بتاء التأنيث شاذ كرطبة ورطب وأرطاب والضمير في قوله تعالى: {أوتركتموها قائمة} عائد على معنى ما.ولما كان الترك يصدق ببقائها مغروسة أو مقطوعة قال تعالى: {على أصولها فبأذن الله} أي: فقطعها بتمكين الملك الأعظم، روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله تعالى عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل، وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض، فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فسادًا، واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله تعالى هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الأثم، وإن ذلك كان بإذن الله وعن ابن عمر قال: «حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع» واللام في قوله تعالى: {وليخزي الفاسقين} متعلقة بمحذوف، أي: وأذن في قطعها ليخزي اليهود في اعتراضهم بأن قطع الشجر المثمر فساد، وليسر المؤمنين ويعزهم، وليخزي الفاسقين.فإن قيل: لم خصت اللينة بالقطع؟أجيب: بأنه إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشدّ.واحتجوا بهذه الآية على أنّ حصون الكفرة وديارهم يجوز هدمها وتحريقها وتغريقها، وأن ترمى بالمناجيق، وكذا أشجارهم. وعن ابن مسعود: أنهم قطعوا منها ما كان موضعًا للقتال، وروي: أنّ رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا: تركتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هذا: قطعتها غيظًا للكفار. وقد استدل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضور النبي صلى الله عليه وسلم لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك، واحتج به من يقول: كل مجتهد مصيب. وقال الكيا الطبري: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولا شك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي: وهذا باطل لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد مع حضوره صلى الله عليه وسلم وإنما يدل على اجتهاد النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه أخذًا بعموم الأدلة للكفار ودخولًا للأذن في الكل بما يقضي عليهم بالبوار، وذلك قوله تعالى: {وليخزي الفاسقين}.{وما أفاء الله} أي: ردّ الملك الذي له الأمر كله ردًّا سهلًا بعد أن كان في غاية العسر والصعوبة {على رسوله} فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفرة عليه ظلمًا وعدوانًا، كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظلّ إلى الناحية التي كان ابتدأ منها {منهم} أي: ردًّا مبتدأ من الفاسقين فبين تعالى أن هذا فيء لا غنيمة، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم بلا وارث، وكذا الفاضل عن وارث له غير حائز، وكذا الجزية وعشر تجارتهم، وما جلوا أي: تفرقوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم.وأمّا الغنيمة فهي ما حصل لنا من الحربيين مما هو لهم بايجاف حتى ما حصل بسرقة أو التقاط، وكذا ما انهزموا عنه عند التقاء الصفين ولو قبل شهر السلاح، أو أهداه الكافر لنا والحرب قائمة. ولم تحل الغنائم لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالًا جمعوه فتأتي نار من السماء فتأخذه، ثم أحلت لنبينا صلى الله عليه وسلم وكانت في صدر الإسلام له خاصة، لأنه كالمقاتلين كلهم نصرة وشجاعة بل أعظم، ثم نسخ ذلك واستقرّ الأمر على ما هو في سورة الأنفال في قوله تعالى: {واعلموا إنما غنمتم من شيء} [الأنفال].الآية وأما الفيء فهو مذكور هنا بقوله تعالى: {فما أوجفتم} أي: أسرعتم يا مسلمين {عليه} ومن في قوله تعالى: {من خيل} مزيدة، أي: خيلًا، وأكد بإعادة النافي دفعًا لظن من ظنّ أنه غنيمة لأحاطتهم به بقوله تعالى: {ولا ركاب} والركاب الإبل غلب ذلك عليها من بين المركوبات، واحدها راكبة ولا واحد لها من لفظها.وقال الرازي: العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارسًا، والمعنى: لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حربًا ولا مشقة، فإنها كانت من المدينة على ميلين، قاله الفرّاء فمشوا إليها مشيًا، ولم يركبوا إليها خيلًا ولا إبلًا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ركب جملًا، وقيل: حمارًا مخطومًا بليف فافتتحها صلحًا.قال الرازي: إنّ الصحابة طلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم، فذكر الله تعالى الفرق بين الأمرين، وأنّ الغنيمة هي التي تعبتم أنفسكم في تحصيلها، وأمّا الفيء فلم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكان الأمر مفوّضًا فيه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء.{ولكن الله} أي: الذي له العز كله فلا كفؤ له {يسلط رسله} أي: له هذه السنة في كل زمن {على من يشاء} يجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعبًا في قلوب أعدائه {والله} أي: الملك الذي له الكمال كله {على كل شيء} يصح أن تتعلق المشيئة به، وهو كل ممكن من التسليط وغيره {قدير} أي: بالغ القدرة إلى أقصى الغايات فلا حق لكم فيه، ويختص به النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن ذكر معه في الآية الثانية من الأصناف الأربعة، على ما كان عليه القسمة من أنّ لكل منهم خمس الخمس وله صلى الله عليه وسلم الباقي يفعل فيه ما يشاء.ثم بين تعالى مصرف الفيء بقوله تعالى: {ما أفاء الله} أي: الذي اختص بالعزة والقدرة والحكمة {على رسوله من أهل القرى} أي: قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية، فيخمس ذلك خمسة أخماس وإن لم يكن في الآية تخميس، فإنه مذكور في آية الغنيمة فحمل المطلق على المقيد، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم له أربعة أخماسه وخمس خمسة، ولكل من الأربعة المذكورين معه خمس خمس وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح فقوله تعالى: {فلله} أي: الملك الأعلى الذي كله بيده ذلك للتبرّك، فإنّ كل أمر لا يبدأ فيه به فهو أجذم {وللرسول} أي: الذي عظمته من عظمته تعالى، وقد تقدم ما كان له صلى الله عليه وسلم وأمّا بعده صلى الله عليه وسلم فيصرف ما كان له من خمس الخمس لمصالح المسلمين، وسد ثغور، وقضاة، وعلماء بعلوم تتعلق بمصالح المسلمين كتفسير وقراءة، والمراد بالقضاة غير قضاة العسكر أمّا قضاته وهم الذين يحكمون لأهل الفيء في مغزاهم فيرزقون من الأخماس الأربعة لا من خمس الخمس، يقدّم وجوبًا الأهمّ فالأهمّ. وأمّا الأربعة المذكورة معه صلى الله عليه وسلم فأولها المذكور في قوله تعالى: {ولذي القربى} أي: منه، وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب لاقتصاره صلى الله عليه وسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عميهم نوفل وعبد شمس له، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أما بنو هاشم وبنو المطلب فشيء واحد، وشبك بين أصابعه» فيعطون ولو أغنياء لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى العباس وكان غنيًا، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث فله سهمان ولها سهم، لأنه عطية من الله تعالى يستحق بقرابة الأب كالإرث سواء الكبير والصغير، والعبرة بالانتساب إلى الآباء فلا يعطى أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئًا لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أن أم كل منهما كانت هاشمية.
|